الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **
وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست معتمراً لا يريد حرباً بالمهاجرين والأنصار في ألف وأربعمائة وساق الهدي وأحرم بالعمرة وسار حتى وصل إِلى ثنية المرار مهبط الحديبية أسفل مكة وأمر بالنزول فقالوا: لينزل على غير ماء فأعطى رجلاً سهماً من كنانته وغرره في بعض تلك القلب في جوفه فجاش حتى ضرب الناس عنه وهذا من مشاهير معجزاته صلى الله عليه وسلم فبعث قريش عروة بن مسعود الثقفي وهو سيد أهل الطائف فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إِنّ قريشاً لبسوا جلود النمور وعاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة أبداً. ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقرع يده ويقول: كف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إِليك. فقال له عروة: ما أفظك وأغلظك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام عروة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى ما يصنع أصحابه لا يتوضأ إِلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق إِلا ابتدروا بصاقه ولا يسقط من شعره شيء إِلا أخذوه ورجع إِلى قريش وقال لهم: أني جئت: كسرى وقيصر في ملكهما فوالله ما رأيت ملكاً في قومه مثل محمد في أصحابه ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إِلى قريش ليعلمهم بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت لحرب فقال عمر: أني أخاف قريشاً لغلظي عليهم وعدواتي لهم فبعث رسول الله عثمان بن عفان إِلى أبي سفيان وأشراف قريش أنه لم يأت لحرب إنما جاء زائراً ومعظماً لهذا البيت فلما وصل إِليهم عثمان وعرفهم بذلك قالوا له: إِن أحببت أنك تطوف بالبيت فطف فقال: ما كنت لأفعله حتى يطوف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمسكوه وحبسوه وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عثمان قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نبرح حتى نناجز القوم) ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان الناس يقولون بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وكان جابر يقول: لم يبايعنا إِلا على أننا لا نفر فبايع رسول الله عليه السلام الناس ولم يتخلف أحد من المسلمين إِلا الجد بن قيس استتر بناقته وبايع رسول الله عليه السلام لعثمان في غيبته فضرب بإِحدى يديه على الأخرى ثم أتى النبي الخبر أن عثمان لم يقتل. الصلح بين النبي وقريش ثم إِن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح وتكلمّ مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلما أجاب إِلى الصلح قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أو لست برسول الله أولسنا بالمسلمين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى قال: فعلام نعُطي لبينة في ديننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني) ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن أكتب اسمك واسم أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأشْهد في الكتاب على الصلح رجالاً من المسلمين والمشركين وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرجوا من المدينة لا يشكون في فتح مكة لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع داخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك نحر هديه وحلق رأسه وقام الناس أيضاً فنحروا وحلقوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يومئذ (يرحم الله المحلقين) قالوا والمقصرين يا رسول الله قال: (رحم الله المحلقين حتى أعادوا وأعاد ذلك ثلاث مرات ثم قال: (والمقصرين) ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة وأقام بها حتى خرجت السنة ثم دخلت سنة سبع. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتصف المحرم من هذه السنة أعني سنة سبع إلى خيبر وحاصرهم وأخذ الأموال وفتحها حصناً حصناً فأول ما فُتح حصن ناعم ثم افتتح حصن القموص وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما سبايا منهن صفية بنت كبيرهم حيي بن أخطب فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها وهي من خواصه عليه السلام ثم افتتح حصن المصعب وما كان بخيبر حصن أكثر طعاماً وودكاً منه ثم انتهى إِلى الوطيح والسلالم وكانا آخر حصون خيبر افتتاحاً. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما كانت تأخذه الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج فلما نزل خيبر أخذته فأخذ أبو بكر الصدّيق الراية فقاتل قتالاً شديداً ثم رجع فأخذها عمر بن الخطاب فقاتل قتالاً أشد من الأول ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. كراراً غير فرار يأخذها عنوة) فتطاول المهاجرون والأنصار وكان علي بن أبي طالب غائباً فجاء وهو أرمد قد عصب عينيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن مني فدنا منه فتفل في عينيه فزال وجعهما ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه حلة حمراء وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفرة وهو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره أكيلكم بالسيف كيل السندره فاختلفا بضربتين فقدت ضربة علي المغفر ورأس مرحب وسقط على الأرض. وروى ابن إسحاق خلاف ذلك والذي ذكرنا هو الأصح وفتحت المدينة على يد علي رضى الله عنه وذلك بعد حصار بضع عشرة ليلة وحكى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى خيبر فخرج إِليه أهل الحصن وقاتلهم علي رضي الله عنه فضربه رجل من اليهود فطرح ترس علي من يده فتناول باباً كان عند الحصن فتترس به ولم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده. فلقد رأيتني في سبعة نُفر أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه. وكان فتح خيبر في صفر سنة سبع للهجرة وسأل أهل خيبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على أن يساقيهم على النصف من ثمارهم ويخرجهم متى شاء ففعل ذلك وفعل ذلك أهل فدك فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها فتحت بغير إيجاف خيل ولم يزل يهود خيبر كذلك إِلى خلافة عمر رضي الله عنه فأجلاهم منها ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إِلى وادي القرى فحاصره ليلة وافتتحه عنوة ثم سار إِلى المدينة ولما قدمها وصل إليه من الحبشة بقية المهاجرين ومنهم جعفر بن أبي طالب فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أدري بأيهما أسَر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إِلى النجاشي يطلبهم ويخطب أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت قد هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش فتنصر عبيد الله المذكور وأقام بالحبشة فزوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وكان بالحبشة من جملة المهاجرين وأصدقها النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار ولما بلغ أباها أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قال: ذلك الفحل الذي لا يقرع أنفه فقدمت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أن يدخلوا الذين حضروا من الحبشة في سهامهم من مغنم خيبر ففعلوا وفي غزوة خيبر هدت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث اليهودية شاة مسمومة فأخذ منها قطعة ولاكها. ثم لفظها وقال: تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة ثم قال في مرض موته أن أكلة خيبر لم تزل تعاودني وهذا زمان انقطاع أبهري. في هذه السنة أعني سنة سبع بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتبه ورسله إِلى الملوك يدعوهم إِلى الإسلام فأرسل إلى كسرى برويز بن هرمز عبد الله بن حذافة فمزَق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يكاتبني بهذا وهو عبدي ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: مزق الله ملكه ثم بعث كسرى إلى باذان عامله باليمن أن ابعث إِلى هذا الرجل الذي في الحجاز فبعث باذان إِلى النبي صلى الله عليه وسلم اثنين أحدهما يقال له خرخسره وكتب معهما يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إِلى كسرى فدخلا على النبي عليه السلامُ وقد حلقا لحاهما وشواربهما فكره النبي النظر إِليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا قالا: ربنا، يعنيان كسرى فقال النبي عليه السلام: لكنّ ربي أمرني أن أعف عن لحيتي وأقص شاربي فأعلماه بما قَدما له وقالا: إِن فعلت كتب فيك باذان إِلى كسرى وإن أبيت فهو يهلكك فأخر النبي صلى الله عليه وسلم الجواب إِلى الغد وأتى الخبر من السماء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهما بذلك وقال لهما: (إِن ديني وسلطاني سيبلغ ما يبلغ ملكَ كسرى فقولا لباذان أسلم فرجعا إِلى باذان وأخبراه بذلك ثم ورد مكاتبةَ شيرويه إِلى باذان بقتل أبيه كسرى وأن لا يتعرض إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم باذان وأسلم معه ناس من فارس. فأرسل دحية بن خليفة الكلبي إِلى قيصر ملك الروم فأكرم قيصر دحية وضع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخدة ورد دحية رداً جميلاً. وأرسل حاطب بن أبي بلتعة وهو بالحاء المهملة إلى صاحب مصر وهو المقوقس جريج بن متى فأكرم حاطباً وأهدى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم أربع جوار وقيل جاريتين إِحداهما مارية وولدت من النبي صلى الله عليه وسلم إِبراهيم ابنه وأهدى أيضاً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم دلدل وحماره يعفور. وكان قد أرسل إِلى النجاشي عمرو بن أمية فقبّل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب حيث كان عنده في الهجرة. وأرسل شجاع بن وهب الأسدي إِلى الحارث بن أبي شمرّ الغساني. فلما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ها أنا سائر إِليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: (باد وأرسل سليط بن عمرو إِلى هوذة بن علي ملك اليمامة وكان نصرانياً فقال هوذة: إِن جعل الأمر لي من بعده سرت إِليه وأسلمت ونصرته وإلا قصدت حربه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ولا كرامة اللهم اكفنيه) فمات بعد قليل. وكان قد أرسل هوذة رجلاً يقال له الرحال بالحاء وقيل بالجيم إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقدم وأسلم وقرأ سورة البقرة وتفقه ورجع إِلى اليمامة وارتد وشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك معه مسيلمة الكذاب في النبوة. وأرسل العلاء بن الحضرمي إِلى ملك البحرين وهو المنذر بن ساوي فأسلم وهو من قبل الفرس وأسلم جميع العرب بالبحرين. ثم خرج رسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من سنة سبع معتمراً عمرة القضاء وساق معه سبعين بدنة ولما قرب من مكة خرجت له قريش عنها وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في عسر وجهد فاصطفوا له عند دار الندوة فلما دخل المسجد اضطبع بأن جعل وسط ردائه تحت عضده الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ثم قال رحم الله أمرأ أراهم اليوم قوة ورمل في أربعة أشواط من الطواف ثم خرج إِلى الصفا والمروة فسعى بينهما وتزوج في سفره هذا ميمونة بنت الحارث زوجه إِياها عمه العباس وذكر أنه تزوجها محرماً وهي من خواصه ثم رجع إِلى المدينة ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة وهو بالمدينة. وفي سنة ثمان قدم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص السهمي وعثمان بن طلحة بن عبد الدار فأسلموا ثم كانت وهي أول الغزوات بين المسلمِين والروم وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف وأمر عليهم مولاه زيد بن حارثة وقال: (إِن قتل فأمير الناس جعفر بن أبي طالب فإن قتل فأميرهم عبد الله بن رواحة) ووصلوا إلى مؤتة من أرض الشام وهي قبلي الكرك فاجتمعت عليهم الروم والعرب المنتصرة في نحو مائة ألف والتقوا بمؤته وكانت الراية مع زيد فقتل فأخذها جعفر فقتل فأخذها عبد اللهّ بن رواحة فقتل واتفق العسكر على خالد بن الوليد فأخذ الراية ورجع بالناس وقدم الِمدينة وكان سبب هذه الغزوة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير رسولاً إِلى ملك بصرى بكتاب كما بعث إِلى سائر الملوك فلما نزل مؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني نقض الصلح وفتح مكة كان السبب في نقض الصلح أنّ بني بكر كانوا في عقد قريش. وعهدهم وخزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده وفي هذه السنة. أعني سنة ثمان لقيت بنو بكر خزاعة فقتلوا منهم وأعانهم على ذلك جماعة من قريش فانتقض بذلك عهد قريش وندمت قريش على نقض العهد فقدم أبو سفيان بن حرب إِلى المدينة لتجديد العهد ودخل على ابنته أمّ حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يجلس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته عنه فقال: يا بنية أرغبت به عني. فقالت: هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فقال: لقد أصابك بعدي شر ثم أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد شيئاً وأتى كبار الصحابة مثل أبي بكر الصديق وعلي رضي الله عنه فتحدث معهما فأجاباه إلى ذلك فعاد إِلى مكة وأخبر قريشاً بما جرى وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد أن يبغت قريشاً بمكة من قبل أن يعلموا به فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إِلى قريش مع سارة مولاة بني هاشم يعلمهم بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة وأخذا منها الكتاب وأحضرا النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال: ما حملك على هذا فقال: والله إني مؤمن ما بدلت ولا غيرت ولكن لي بين أظهرهم أهل وولد وليس لي عشيرة فصانعتهم. فقال عمر بن الخطاب دعني أضرب عنقه فإِنه منافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ثم خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المدينة لعشر مضين من رمضان سنة ثمان ومعه المهاجرون والأنصار وطوائف من العرب فكان جيشه عشرة آلاف حتى قارب مكة فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لعلي أجد حطاباً أو رجلاً يعلم قريشاً بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتونه ويستأمنونه وإلا هلكوا عن آخرهم. قال: فلما خرجت سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي: قد خرجوا يتجسسون فقال العباس: أبا حنظلة يعني أبا سفيان فقال أبا الفضل قلت نعم قال لبيك فداك أبي وأمي ما وراءك فقلت: قد أتاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من المسلمين. فقال أبو سفيان: ما تأمرني به قلت تركب لأستأمن لك رسول اللّه وإِلا يضرب عنقك فردفني وجئت به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت طريقي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمرو: أبا سفيان الحمد للهّ الذي أمكنني منك بغير عقد ولا عهد ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته فقال: يا رسول الله دعني اًضرب عنقه وسأل العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنته وأحضره يا عباس بالغداة فرجع به العباس إِلى منزله وأتى به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغداة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا سفيان أما آن أن تعلم أن لا إِله إِلا الله قال إلى: قال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله) فقال: بأبي أنت وأمي أما هذه ففي النفس منها شيء فقال له العباس: ويحك تشهّد قبل أن تُضرب عنقك فتشاهد وأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس (اذهب بأبي سفيان إِلى مضيق الوادي ليشاهد جنود الله) فقال العباس يا رسول الله إِنه يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه فقال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ). قال: فخرجت به كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت عليه القبائل وهو يسأل عن قبيلة وأنا أعلمه حتّى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يبين منهم إِلا الحدق فقال من هؤلاء. فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكاً عظيماً. قال: فقلت ويحك إِنها النبوة فقال نعم. سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يدخل ببعض الناس من ثنية كداء ثم أمر عليّاً أن يأخذ الراية منه فيدخل بها لما بلغه من قول سعد: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة. وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة في بعض الناس وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال إِلا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش فرموه بالنبل ومنعوه من الدخول فقاتلهم خالد فقتل من المشركين ثمانية وعشرين رجلاً فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قال: ألم أنه عن القتال فقالوا: إِن خالد قوتل فقاتل وقُتل من المسلمين رجلان. وكان فتح مكة يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وملكها صلحاً وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله عنه وقال أبو حنيفة إِنها فتحت عنوة ولما أمكن الله رسوله من رقاب قريش عنوة قال لهم: ما تروني فاعلاً بكم قالوا له: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال (فاذهبوا فأنتم الطلقاء) و لما اطمأن الناس خرج النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الطواف فطاف بالبيت سبعاً على راحلته واستلم الركن بمحجن كان في يده ودخل الكعبة ورأى فيها الشخوص على صور الملائكة وصورة إِبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إِبراهيم والأزلام ثم أمر بتلك الصور فطمست وصلى في البيت وأهدر دم ستة رجال وأربع نسوة أحدهم عكرمة بن أبي جهل ثم استأمنت له زوجته أم حكيم فأمنّه فقدم عكرمة فأسلم. وثانيهم هبار بن الأسود وثالثهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فأتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فيه فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم أمنّه فأسلم وقال لأصحابه: (إِنما صمت ليقوم أحدكم فيقتله) فقالوا: هلا أومأت إِلينا فقال: (إِن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين) وكان عبد الله المذكور قد أسلم قبل الفتح وكتب الوحي فكان يبدل القرآن ثم ارتد وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وولاه مصر. ورابعهم مقيس بن صبابة لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ وارتد وخامسهم عبد الله بن هلال كان قد أسلم ثم قتل مسلماً وارتد. وسادسهم الحويرث بن نفيل كان يؤذي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويهجوه فلقيه علي بن أبي طالب فقتله. وأما النساء فإِحداهن هند زوج أبي سفيان أم معاوية التي أكلت من كبد حمزة فتفكرت مع نساء قريش وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرفها قالت: أنا هند فاعف عما سلف فعفا ولما جاء وقت الظهر يوم الفتح أذن بلال على ظهر الكعبة فقالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم اللّه أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة وقال الحارث بن هشام ليتني مت قبل هذا وقال خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أبي فلم ير هذا اليوم فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر لهم ما قالوه فقال الحارث بن هشام أشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد فنقول أخبرك ومن النساء المهدرات الدم سارة مولاة بني هاشم التي حملت كتاب حاطب. غزوة خالد بن الوليد على بني خزيمة لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث السرايا حول مكة إِلى الناس يدعوهم إِلى الإسلام ولم يأمرهم بقتال وكان بنو خزيمة قد قتلوا في الجاهلية عوفاً أبا عبد الرحمن بن عوف وعم خالد بن الوليد كانا أقبلا من اليمن وأخذوا ما كان معهما وكان من السرايا التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الناس ليدعوهم إِلى الإسلام سرية مع خالد بن الوليد فنزل على ماء لبني خزيمة المذكورين فلما نزل عليه أقبلت بنو خزيمة بالسلاح فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإِن الناس قد أسلموا فوضعوه وأمر بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله خالد رفع يديه إِلى السماء حتى بان بياض إبطيه وقال: (اللهم إِني أبرأ إِليك مما صنع خالد) ثم أرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بمال وأمر أن يؤدي لهم الدماء والأموال ففعل علي ذلك ثم سألهم هل بقي لكم مال أو دم فقالوا لا وكان قد فضل مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قليل مال فدفعه إليهم زيادة تطييباً لقلوبهم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأعجبه وأنكر عبد الرحمن بن عوف على خالد فعله ذلك فقال خالد: ثأرتُ أباك. فقال عبد الرحمن: بل ثأرت عمك الفاكه وفعلت فعل الجاهلية في الإسلام وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خصامهما فقال: يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أُحدٌ ذَهَبَاً ثم أنفقته في سبيل الله تعالى ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته. وكانت في شوال سنة ثمان وحنين واد بين مكة والطائف وهو إِلى الطائف أقرب. لما فُتحت مكة تجمّعت هوازن بحريمهم وأموالهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقدمهم مالك بن عوف النضري وانضمت إِليهم ثقيف وهم أهل الطائف وبنو سعد بن بكر وهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مرتضعاً عندهم وحضر مع بني جشم دريد ابن الصمة وهو شيخ كبير قد جاوز المائة وليس يراد منه التيمن برأيه وقال رجزاً: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم خرج من مكة لست خلون من شوال ثمان وكان يقصر الصلاة بمكة من يرم الفتح إِلى حين خرج للقاء هوازن وخرج معه اثنا عشر ألفاً ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف كانت معه وكان صفوان ابن أمية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر لم يُسلم سأل أن يُمهل بالإسلام شهرين وأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى ذلك واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مائة درع في هذه الغزوة وحضرها أيضاً جماعة كثيرة من المشركين وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى حنين والمشركون بأوطاس فقال دريد بن الصمة: بأي واد أنتم. قالوا: بأوطاس. قال: نعْمَ مجال الخيل لا حَزن ضرس ولا سهل دَهِس وركب النبي صلى الله عليه وسلم بغلته الدُلَدُل وقال رجل من المسلمين لما رأى كثرة جيش النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب هؤلاء من قلة) وفي ذلك نزل قوله تعالى: قال والله لئن يُربني رجل من قريش أحبّ إِلي من أن يُربني رجل من هوازن واستمر رسول الله ثابتاً وتراجع المسلمون واقتتلوا قتالاً شديداً وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لبغلته الدلدل: البدي البدي فوضعت بطنها على الأرض وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة تراب فرمى بها في وجه المشركين فكانت الهزيمة ونَصَر الله تعالى المسلمين واتبع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم وكان في السبي الشيماء بنت الحارث وأمها حليمة السعدية وكانت أخت رسول الله من الرضاع فعرفته بذلك وأرته العلامة وهي عضة النبي صلى الله عليه وسلم في ظهرها فعرفها وبسط لها رداءه وزودها وردها إِلى قومها حسبما سألت.
|